القبر هو ذلك المكان الضيق الذي يضم بين جوانبه جثث الموتى ، و هو موطن العظماء ، و الحقراء ، و الحكماء ، و السفهاء، و منزل الصالحين والسعداء ، و هو إما روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار، و إما دار كرامة و سعادة ، أو دار إهانة و شقاوة .. فواعجبا لذوي القربى كيف يتقاطعون و يتحاسدون و هم يعلمون أنهم إلى القبور صائرون؟!!
ثم واعجبا للحكام كيف يظلمون و يطغون و هم يعلمون أنهم غدا في اللحود مقيمون ؟!!
قال عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ لبعض جلسائه:
"... يا فلان ، لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر و ساكنه ، إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه، بعد طول الأنس منك به ، و لرأيت بيتا تجول فيه الهوام ، و يجري فيه الصديد ، و تخترقه الديدان مع تغير الريح و بلي الأكفان بعد حسن الهيئة ، و طيب الروح ، و نقاء الثياب ".
خير الزاد التقوى
لما رجع علي ـ رضي الله عنه من صفين و أشرف على القبور قال : " يا أهل الديار الموحشة ، و المحال المقفرة ، و القبور المظلمة ، يا أهل التربة ، يا أهل الغربة ، و يا أهل الوحشة ، أنتم لنا فرط سابق ، و نحن لكم تبع لاحق .
أما الدور فقد سكنت ، و أما الأزواج فقد نكحت ، و أما الأموال فقد قسمت ، هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم ؟"
ثم التفت إلى أصحابه فقال : " أما لو أُذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى".
ذكـــرى
إن الموت حقيقة قاسية رهيبة تواجه كل حي ، فلا يملك لها ردا، و لا يستطيع لها أحد ممن حوله دفعا ، و هي تتكرر في كل لحظة ، يواجهها الكبار و الصغار، و الأغنياء و الفقراء ، و الأقوياء و الضعفاء ، و يقف الجميع منها موقفا واحدا، لا حيلة ، و لا وسيلة ، و لا قوة ، و لا شفاعة ، و لا دفع ، و لا تأجيل ، مما يوحي بأنها قادمة من صاحب قوة عليا لا يملك البشر معها شيئا ، و لا مفر من الاستسلام لها .
بيد الله تعالى ـ وحده إعطاء الحياة ، و بيدة استرداد ما أعطى في الموعد المضروب ، و الأجل المرسوم ، سواء كان الناس في بيوتهم ، وبين أهليهم ، أو في ميادين الكفاح يطلبون الرزق .. الكل مرجعه إلى الله ـ تعالى ـ محشور إليه ، ما لهم مرجع سوى هذا المرجع ، و ما لهم مصير سوى هذا المصير ، و التفاون إنما هو في العمل و النية ، و في الاتجاه و الاهتمام ، أما النهاية فواحدة ، الموت في الموعد المحتوم ، و الأجل المقسوم ، و رجعة إلى الله ، و حشر في يوم الجمع و الحشر ، فمغفرة من الله ، و رحمة أو غضب منه ـ سبحانه ـ و عذاب.
إن أحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس ، و هو ميت على كل حال. لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس ، حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة ، محدودة بأجل ، ثم تأتي نهايتها حتما . .
يموت الصالحون و يموت الطالحون
يموت المجاهدون ، و يموت القاعدون
يموت الشجعان الذين يأبون الضيم
و يموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن
يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة ، و الأهداف العالية
و يموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص
يموت الحكام ، و يموت المحكومون
يموت الأغنياء ، و يموت الفقراء
الكل يموت - كل نفس ذائقة الموت
كل نفس تذوق هذه الجرعة ، و تفارق هذه الحياة ، لا فارق بين نفس و نفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع ، إنما الفارق في شئ آخر ، الفارق في قيمة أخرى ، الفارق في المصير (( و إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار و أدخل الجنة فقد فاز )).
هذه القيمة التي يكون فيها الإفتراق ، و هذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان ، القيمة الباقية التي تستحق السعي و الكد ، و المصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب..
كان يزيد الرقاشي يقول قي كلامه : " أيها المقبور في حفرته ، المتخلي في القبر بوحدته ، المستأنس في بطن الأرض بأعماله ، ليت شعري بأي أعمالك استبشرت ، و بأي أحوالك اغتبطت ؟ ثم يبكي حتى يبل عمامته ، و يقول : استبشر ـ و الله ـ بأعماله الصالحة و اغتبط و الله بإخوانه المعاونين له على طاعة الله"
أول ليلة في القبر
ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلم في مخيلته ، ليلة في بيته ، مع أطفاله و أهله ، منعما سعيدا ، في عيش رغيد ، و في عافية و صحة ، يضاحك أولاده و يضاحكونه، و الليلة التي تليها مباشرة أتاه فيها ملك الموت ، فوضع في القبر وحيدا منفردا.
و هذا الشاعر يقول :
يقول لما انتقلت من المكان الذي اعتدت عليه ، إلى مكان آخر فارقني النوم ، فما بالك كيف تكون الليلة الأولى التي أوضع فيها في القبر؟!! حيث لا أنيس ، و لا جليس ، و لا زوجة ، و لا أطفال ، و لا أحوال ، (( ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم و هو أسرع الحاسبين ))
أول ليلة في القبر بكى منها العلماء .. و شكى منها الحكماء ، و صنفت فيها المصنفات .
أتي بأحد الشعراء و هو في سكرات الموت ، لدغته حية ، و كان في سفر ، فنسي أن يودع أمه ، و أباه ، و أطفاله، و إخوانه ، فقال قصيدة يلفظها مع أنفاسه، يقول و هو يزحف إلى القبر :
فلله دري يــــوم أترك طائعا بَنيَّ بأعلى الرقمتين و داريا
يقولون لا تبعد و هم يدفنوني و أين مكان البعد إلا مكانيا
يقول كيف أفارق أولادي في هذه اللحظة ؟! لماذا لا أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلس الحياة ؟! أهكذا تذهب ؟! أهكذا أفقد كل شئ في لحظة ؟! و يقول أصحابي و الذين يتولون دفني : لا تبعد ، أي لا أبعدك الله ، و هل هناك أظلم من هذا المكان ؟! ((حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون . لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون))
كلا .. آلآن تراجع حسابك ؟! آلآن تكف عن المعاصي ؟! يا مدبرا عن المساجد ما عرفت الصلاة ، يا معرضا عن القرآن ، يا منتهكا لحدود الله ، يا ناشئا في معاصي الله ، يا مقتحما لأسوار حرمها الله .. آلآن تتوب؟! أين أنت قبل ذلك؟!
أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين ، غرته قصوره ، و ما تذكر أول ليلة ينزل فيها القبر. هذا السلطان بنى قصورا عظيمة في بغداد ، فدخل عليه أبو العتاهية يهنئه على تلك القصور، فقال له:
عش ما بـدا لك ســالما في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الغـدو مـع البكــور
يقول عش ألف سنة ، ألفين ، ثلاثة ، سالما من الأمراض و الآفات ، يتحقق لك ما تريده من طعام و شراب و لذة.
و لكن ماذا بعد ذلك :
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهنــاك تعلــم مــوقنا ما كنت إلا فـي غــرور
فبكى السلطان حتى أغمي عليه.
هذا عمر بن عبدالعزيز رحمه الله ، كان أميرا من أمراء الدولة الأموية ، يغير الثوب في اليوم أكثر من مرة ، الذهب و الفضة عنده ، الخدم و القصور ، المطاعم و النشارب ، كل ما اشتهى و طلب و تمنى تحت يده، و عندما تولى الخلافة ، و أصبح مسئولا عن المسلمين ، انسلخ من ذلك كله ، لأنه تذكر أول ليلة في القبر.
وقف على المنبر، فبكى يوم الجمعة ، و قد بايعته الأمة ، و حوله الأمراء و الوزراء ، و العلماء ، و الشعراء ، و قواد الجيوش ، فقال: خذوا بيعتكم ، قالوا : ما نريد إلا أنت ، فتولاها و هو كاره ، فما مر عليه أسبوع إلا و قد هزل و ضعف و تغير لونه، ما عنده إلا ثوب واحد ، قالوا لزوجه: مال عمر ؟ قالت : و الله ما ينام الليل ، و الله إنه يأوي إلى فراشه ، فيتقلب كأنه ينام على الجمر ، يقول : آه آه ، توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه و سلم ، يسألني يوم القيامة الفقير و المسكين ، الطفل و الأرملة.
قال له العلماء : يا أمير المؤمنين ، رأيناك و أنت في مكة قبل أن تتولى الملك ، في نعمة وفي صحة و في عافية ، فمالك تغيرت ، فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف ، ثم قال لهذا العالم و هو ابن زياد : كيف يا بن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام ، يوم أجرد من الثياب ، و أتوسد التراب ، و أفارق الأحباب ، و أترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث .. و الله لرأيت منظرا يسوؤك . فنسأل الله تعالى حسن العمل...
و الله لو عاش الفتى في عمره ألفا و من الأعوام مالك أمره
متنعمــا فيـــــها بكــل لذيـــذة متلذذا فيها بسكنى قصـــره
لا يعتريه الهــــم طــول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدره
ما كان ذلك كله فـــي أن يفــي فيــها بأول ليلة فــي قبـــره
حدّث سليم بن عامر قال: خرجنا في جنازة على باب دمشق ، و معنا أبو أمامة الباهلي ، فلما صلى على الجنازة